سورة النبأ - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)}
قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً}: مفعال من الرصد والرصد: كل شيء كان أمامك. قال الحسن: إن على النار رصدا، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز حبس. وعن سفيان رضي الله عنه قال: عليها ثلاث قناطر. وقيل مِرْصاداً ذات أرصاد على النسب، أي ترصد من يمر بها.
وقال مقاتل: محبسا.
وقيل: طريقا وممرا، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم.
وفي الصحاح: والمرصاد: الطريق. وذكر القشيري: أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو، نحو المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل. أي هي معدة لهم، فالمرصاد بمعنى المحل، فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم. وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة، تجازيهم بأفعالهم.
وفي الصحاح: الراصد الشيء: الراقب له، تقول: رصده يرصده رصدا ورصدا، والترصد: الترقب. والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدته: أعددت له. والكسائي: مثله. قلت: فجهنم معدة مترصدة، متفعل من الرصد وهو الترقب، أي هي متطلعة لمن يأتي. والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار. {لِلطَّاغِينَ مَآباً} بدل من قوله: مِرْصاداً والمآب: المرجع، أي مرجعا يرجعون إليها، يقال: آب يئوب أوبة: إذا رجع.
وقال قتادة: مأوى ومنزلا. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم. قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حقب جاء حقب. والحقب بضمتين: الدهر والأحقاب الدهور. والحقبة بالكسر: السنة، والجمع حقب، قال متمم بن نويرة التميمي:
وكنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون: ثمانون سنة.
وقيل: أكثر من ذلك وأقل، على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. ونحوه وذكر الأحقاب لان الحقب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام، لان الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب.
وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب، ولهذا قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً. ولابِثِينَ اسم فاعل من لبث، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان، كالشرب. وقرأ حمزة والكسائي لابِثِينَ بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان، يقال: رجل لابث ولبث، مثل طمع وطامع، وفره وفارة. ويقال: هو لبث بمكان كذا: أي قد صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو حذر وفرق، لان باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك أسم الفاعل من لابث. والحقب: ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس. وروي ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو هريرة: والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضا: الحقب: أربعون سنة. السدي: سبعون سنة.
وقيل: إنه ألف شهر. رواه أبو أمامة مرفوعا. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة. الحسن: الأحقاب لا يدري أحدكم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وعن أبي أمامة أيضا، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة» ذكره المهدوي. والأول الماوردي.
وقال قطرب: هو الدهر الطويل غير المحدود.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا، الحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار». ذكره الثعلبي. القرظي: الأحقاب: ثلاثة وأربعون، حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة. قلت: هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإنما المعنى- والله أعلم- ما ذكرناه أولا، أي لابثين فيها أزمانا ودهورا، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع.
وقال ابن كيسان: معنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لا غاية لها انتهاء، فكأنه قال أبدا.
وقال ابن زيد ومقاتل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} يعني أن العدد قد انقطع، والخلود قد حصل. قلت: وهذا بعيد، لأنه خبر، وقد قال تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} [الأعراف: 40] على ما تقدم. هذا في حق الكفار، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص. والله أعلم.
وقيل: المعنى {لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} أي في الأرض، إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في {لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً} لجهنم.
وقيل: واحد الأحقاب حقب وحقبة، قال:
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها *** فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت:
مر لها بعد حقبة حقب ***
قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيها} أي في الأحقاب {بَرْداً وَلا شَراباً} البرد: النوم في قول أبي عبيدة وغيره، قال الشاعر:
ولو شئت حرمت النساء سواكم *** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي، وأنشدوا قول الكندي:
بردت مراشفها علي فصدني *** عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم. والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النوم. قلت: وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم. فقال: «لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها» فكذلك النار، وقد قال تعالى: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] وقال ابن عباس: البرد: برد الشراب. وعنه أيضا: البرد النوم: والشراب الماء.
وقال الزجاج: أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم. فجعل البرد برد كل شيء له راحة، وهذا برد ينفعهم، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به، فلا ينفعهم، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بردا: أي روحا وراحة، قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء أوقات العشي تذوق
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً جملة في موضع الحال من الطاغين، أو نعت للأحقاب، فالاحقاب ظرف زمان، والعامل فيه لابِثِينَ أو لابِثِينَ على تعدية فعل. {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه. والحميم: الماء الحار، قاله أبو عبيدة.
وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يسقونه. قال النحاس: أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمام، ومنه الحمى، ومنه وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ: إنما يراد به النهاية في الحر. والغساق: صديد أهل النار وقيحهم. وقيل الزمهرير. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين، وقد مضى في ص القول فيه. {جَزاءً وِفاقاً} أي موافقا لأعمالهم. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة. وجَزاءً نصب على المصدر، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم، قاله الفراء والأخفش.
وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق واللفق واحد.
وقال مقاتل. وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوءهم. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ أي لا يخافون حِساباً أي محاسبة على أعمالهم.
وقيل: معناه لا يرجون ثواب حساب. الزجاج: أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً} أي بما جاءت به الأنبياء.
وقيل: بما أنزلنا من الكتب. وقراءة العامة كِذَّاباً بتشديد الذال، وكسر الكاف، على كذب، أي كذبوا تكذيبا كبيرا. قال الفراء: هي لغة يمانية فسيحة، يقولون: كذبت به كذابا، وخرقت القميص خراقا، وكل فعل في وزن فعل فمصدره فعال مشدد في لغتهم، وأنشد بعض الكلابيين:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي *** وعن حوج قضاؤها من شفائتا
وقرا علي رضي الله عنه {كذابا} بالتخفيف وهو مصدر أيضا.
وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعا: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها *** والمرء ينفعه كذابة
أبو الفتح: جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا. الزمخشري: {كذابا} بالتخفيف مصدر كذب، بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها *** والمرء ينفعه كذابة
وهو مثل قوله: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا. أو تنصبه ب- كَذَّبُوا لأنه بتضمن معنى كذبوا، لان كل مكذب بالحق كاذب، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مكاذبة. وقرأ ابن عمر {كذابا} بضم الكاف والتشديد، جمع كاذب، قاله أبو حاتم. ونصبه على الحال الزمخشري. وقد يكون الكذاب: بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك حسان وبخال، فيجعله صفة لمصدر كَذَّبُوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه.
وفي الصحاح: وقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً} وهو أحد مصادر المشدد، لان مصدره قد يجئ على تفعيل مثل التكليم وعلى فعال كذاب وعلى تفعلة مثل توصية، وعلى مفعل، {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً} كُلَّ نصب بإضمار فعل يدل عليه {أَحْصَيْناهُ} أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. وقرأ أبو السمال {وكل شيء} بالرفع على الابتداء. {كِتاباً} نصب على المصدر، لان معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابا. ثم قيل: أراد به العلم، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان.
وقيل: أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة.
وقيل: أراد ما كتب على العباد من أعمالهم. فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة، دليله قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ} [الانفطار: 11- 10]. {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} قال أبو برزة: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً} أي {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها} [النساء: 56] و{كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} [الاسراء: 97].


{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)}
قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً} ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله مَفازاً موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار. ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلا بالخلاص منها. {حَدائِقَ وَأَعْناباً} هذا تفسير الفوز.
وقيل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً إن للمتقين حدائق، جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، يقال أحدق به: أي أحاط. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب، فحذف. {وَكَواعِبَ أَتْراباً} كواعب: جمع كاعب وهي الناهد، يقال: كعبت الجارية تكعب كعوبا، وكعبت تكعب تكعيبا، ونهدت تنهد نهودا.
وقال الضحاك: ككواعب العذارى، ومنه قول قيس بن عاصم:
وكم من حصان قد حوينا كريمة *** ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
والأتراب: الاقران في السن وقد مضى في سورة الواقعة، الواحد ترب. {وَكَأْساً دِهاقاً} قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس: مترعة مملوءة، يقال: أدهقت الكأس: أي ملأتها، وكأس دهاق أي ممتلئة، قال:
ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي *** من مائها بكأسك الدهاق
وقال خداش بن زهير:
أتانا عامر يبغي قرانا *** فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا، ومنه ادهقت الحجارة ادهاقا، وهو شدة تلازبها ودخول بعضها في بعض، فالمتتابع كالمتداخل. وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم: صافية، قال الشاعر:
لانت إلى الفؤاد أحب قربا *** من الصادي إلى كأس دهاق
وهو جمع دهق، وهو خشبتان يغمز بهما الساق. والمراد بالكأس الخمر، فالتقدير: خمرا ذات دهاق، أي عصرت وصفيت، قاله القشيري.
وفي الصحاح: وأدهقت الماء: أي أفرغته إفراغا شديدا: قال أبو عمرو: والدهق- بالتحريك: ضرب من العذاب. وهو بالفارسية إشكنجه. المبرد: والمدهوق: المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه. ابن الاعرابي: دهقت الشيء كسرته وقطعته، وكذلك دهدقته: وأنشد لحجر بن خالد:
ندهدق بضع اللحم للباع والندى *** وبعضهم تغلي بذم مناقعه
ودهمقته بزيادة الميم: مثله.
وقال الأصمعي: الدهمقة: لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين، ومنه حديث عمر: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها} [الأحقاف: 20]. لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً وَلا كِذَّاباً اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام يخطب فقد لغوت» وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو، بخلاف أهل الدنيا. وَلا كِذَّاباً: تقدم، أي لا يكذب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. وقرأ الكسائي {كذابا} بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة.
وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنما خففها ها هنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له، وشدد قوله: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً لان كذبوا يقيد المصدر بالكذاب. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ نصب على المصدر. لان المعنى جزاهم بما تقدم ذكره، جزاءه وكذلك عَطاءً لان معنى أعطاهم وجزاهم واحد. أي أعطاهم عطاء. حِساباً أي كثيرا، قاله قتادة، يقال: أحسبت فلانا: أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي. قال:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا *** ونحسبه إن كان ليس بجائع
وقال القتبي: ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي.
وقال الزجاج: حِساباً أي ما يكفيهم. وقاله الأخفش. يقال: أحسبني كذا: أي كفاني.
وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا. مجاهد: حسابا لما عملوا، فالحساب بمعنى العد. أي بقدر ما وجب له في وعد الرب، فإنه وعد للحسنة عشرا، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار، كما قال تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10]. وقرأ أبو هاشم: {عطاء حسابا} بفتح الحاء، وتشديد السين، على وزن فعال أي كفافا، قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته، وأنشد قول الشاعر:
إذا أتاه ضيفه يحسبه ***
وقرأ ابن عباس. {حسانا} بالنون.


{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)}
قوله تعالى: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ} قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم: {رب} بالرفع على الاستئناف، {الرحمن} خبره. أو بمعنى: هو رب السموات، ويكون {الرحمن} مبتدأ ثانيا. وقرأ ابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض، نعتا لقوله: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ أي جزاء من ربك رب السموات الرحمن. وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي: رَبِّ السَّماواتِ خفضا على النعت، {الرحمن} رفعا على الابتداء، أي هو الرحمن. واختاره أبو عبيد وقال: هذا أعدلها، خفض رَبِّ لقربه من قوله: مِنْ رَبِّكَ فيكون نعتا له، ورفع {الرحمن} لبعده منه، على الاستئناف، وخبره لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه.
وقال الكسائي: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً بالشفاعة إلا بإذنه.
وقيل: الخطاب: الكلام، أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
وقيل: أراد الكفار لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، فأما المؤمنون فيشفعون. قلت: بعد أن يؤذن لهم، لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} يَوْمَ نصب على الظرف، أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح. واختلف في الروح على أقوال ثمانية: الأول: أنه ملك من الملائكة. قال ابن عباس: ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. ونحو منه عن ابن مسعود، قال: الروح ملك أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال. وهو حيال السماء الرابعة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا، فيجيء يوم القيامة وحده صفا، وسائر الملائكة صفا.
الثاني: أنه جبريل عليه السلام. قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس: إن عن يمين العرش نهرا من نور، مثل السموات السبع، والأرضين السبع، والبحار السبع، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل، فيزداد نورا على نوره، وجمالا على جماله، وعظما على عظمه، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة.
وقال وهب: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه، يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا أنت، وهو قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} في الكلام وَقالَ صَواباً يعني قول: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ.
والثالث: روى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى، ليسوا ملائكة، لهم رءوس وأيد وأرجل، يأكلون الطعام». ثم قرأ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} فإن هؤلاء جند، وهؤلاء جند. وهذا قول أبي صالح ومجاهد. وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم، كالناس وليسوا بناس.
الرابع: أنهم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان.
الخامس: أنهم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح.
السادس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة. فالمعنى ذوو الروح.
وقال العوفي والقرظي: هذا مما كان يكتمه ابن عباس، قال: الروح: خلق من خلق الله على صور بني آدم، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح.
السابع: أرواح بني آدم تقوم صفا، فتقوم الملائكة صفا، وذلك بين النفختين، قبل أن ترد إلى الأجساد، قاله عطية.
الثامن: أنه القرآن، قاله زيد ابن أسلم، وقرأ {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا}. و{صَفًّا}: مصدر أي يقومون صفوفا. والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع، كالعدل والصوم. ويقال ليوم العيد: يوم الصف.
وقال في موضع آخر: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] هذا يدل على الصفوف، وهذا حين العرض والحساب. قال معناه القتبي وغيره.
وقيل: يقوم الروح صفا، والملائكة صفا، فهم صفان.
وقيل: يقوم الكل صفا واحدا. {لا يَتَكَلَّمُونَ} أي لا يشفعون {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} في الشفاعة {وَقالَ صَواباً} يعني حقا، قاله الضحاك ومجاهد.
وقال أبو صالح: لا إله إلا الله.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يشفعون لمن قال لا إله إلا الله.
واصل الصواب. السداد من القول والفعل، وهو من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيب إجابة.
وقيل: {لا يَتَكَلَّمُونَ} يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا، لا يتكلمون هيبة وإجلالا {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه.
وقال الحسن: إن الروح يقول يوم القيامة: لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، ولا النار إلا بالعمل. وهو معنى قوله تعالى: {وَقالَ صَواباً}. قوله تعالى: {ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي الكائن الواقع {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعا بالعمل الصالح، كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله عز وجل، وإذا عمل شرا عده منه. وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك».
وقال قتادة: {مَآباً}: سبيلا. قوله تعالى: {إنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً}
: يخاطب كفار قريش ومشركي العرب، لأنهم قالوا: لا نبعث. والعذاب عذاب الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها} [النازعات: 46] قال معناه الكلبي وغيره.
وقال قتادة: عقوبة الدنيا، لأنها أقرب العذابين. قال مقاتل: هي قتل قريش ببدر. والأظهر أنه عذاب الآخرة، وهو الموت والقيامة، لان من مات فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان، ولهذا قال تعالى: {يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} بين وقت ذلك العذاب، أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، أي يراه وقيل: ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى. والمرء ها هنا المؤمن في قول الحسن، أي يجد لنفسه عملا، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا، فيتمنى أن يكون ترابا. ولما قال: {يَقُولُ الْكافِرُ} علم أنه أراد بالمرء المؤمن.
وقيل: المرء ها هنا: أبي خلف وعقبة بن أبي معيط. {ويَقُولُ الْكافِرُ} أبو جهل.
وقيل: هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب.
وقال مقاتل: نزلت قوله: {يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ}
في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: {يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} في أخيه الأسود بن عبد الأسد.
وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر: ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة، والرحمة، وراي ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أنه يكون بمكان آدم، فقُولُ:
{يالَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} قال: ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر.
وقيل: أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم. وعن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً. ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، مجودا والحمد لله. ذكر أبو جعفر النحاس: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال حدثنا سلمة بن شبيب، قال حدثنا عبد الرازق، قال حدثنا معمر، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
وقال قوم: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً: أي لم أبعث، كما قال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ.
وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، واهل النار إلى النار، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
وقال ليث بن أبي سليم: مؤمنو الجن يعودون ترابا.
وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. وهذا أصح، وقد مضى في سورة الرحمن بيان هذا، وأنهم مكلفون: يثابون ويعاقبون، فهم كبني آدم، والله أعلم بالصواب.

1 | 2